فصل: إحياء الرسول صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر

مساءً 1 :9
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: آداب الصيام وأحكامه **


 الفصل الخامس‏:‏ إحياء العشر الأواخر من رمضان

إذا علمنا أن شهر رمضان هو أفضل الشهور، كانت نتيجة ذلك أن نجتهد فيه اغتناماً لفضله، وإذا علمنا أن العشر الأواخر هي أفضل أيامه، وأفضل لياليه، كانت نتيجة ذلك أن نكثر الاجتهاد فيها، وألا نضيع منها وقتاً في غير منفعة‏.‏

وهذه الأيام العشر يستحب فيها أربعة أشياء‏:‏

1- إحياؤها كلها‏.‏

2- زيادة الاجتهاد فيها بالأعمال الأخرى‏.‏

3- إظهار النشاط فيها والقوة‏.‏

4- الاعتكاف واعتزال الشهوات والملذات‏.‏

 إحياء الرسول صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر

ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ ‏(‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وجدّ، وشدّ المئزر‏)‏‏.‏ وكذلك روي عنها أنها قالت‏:‏ ‏(‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين من رمضان بصلاة ونوم، فإذا كان في العشر لم يذق غمضاً‏)‏‏.‏ أي‏:‏ في الليالي العشر لا يذوق غمضاً، بل يقوم ليله كله دون نوم‏.‏

وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏إذا دخل العشر طوى فراشه‏)‏‏.‏ يعني‏:‏ فراش النوم ليلاً في آخر ليالي الشهر‏.‏ وفي حديث آخر تأكيد الإحياء بقولها‏:‏ ‏(‏وأحيا ليله كله‏)‏‏.‏

 أقسام الناس في إحياء العشر الأواخر

ينقسم الناس في إحياء هذه الليالي إلى أربعة أقسام

 القسم الأول‏:‏ يحيونها بالعبادات

هناك من يحيون العشر الأواخر من رمضان بالعبادات، فيحيونها بالصلاة، وطول القيام والركوع والسجود، اقتداءً بفعل نبيهم صلى الله عليه وسلم فقد كان يديم الصلاة في هذه الليالي؛ فإنه صلى ليلة ببعض صحابته حتى خشوا أن يفوتهم السحور، وكذلك صلى مرة ومعه رجل من أصحابه -وهو حذيفة- فقرأ في ركعة واحدة ثلاث سور‏:‏ سورة البقرة وسورة آل عمران، وسورة النساء، يقرأ بتدبر، ويقف عند آية الرحمة فيسأل، وعند آية العذاب فيتعوذ، يقول‏:‏ فما صلى ركعتين، أو أربع ركعات حتى جاءه المؤذن للصلاة‏.‏

وهذا هو الأصل في إحياء هذه الليالي، فتجد المجتهدين قبل سنوات يهتمون بهذه الليالي، ويولونها زيادة نشاط وعبادة، اقتداءً بفعل نبيهم صلى الله عليه وسلم بحيث إنهم يزيدون في قيام هذه الليالي، ويقطعون الليل كله في الصلاة، فيصلون عشر ركعات، ويقرؤون فيها نحوجزء ونصف، ثم يستريحون نحونصف ساعة ثم يصلون أربع ركعات بسلامين في ساعتين، أو ساعة ونصف على الأقل يقرؤون فيها ثلاثة أجزاء، أو جزئين ونصفاً، ثم يستريحون نحوساعة أو أقل، ثم يصلون ست ركعات تستغرق ساعتين ونصفاً، أو ثلاث ساعات، يقرؤون فيها أيضاً ثلاثة أجزاء أو ثلاثة ونصفاً، ثم يستريحون قليلاً، ثم يصلون الوتر، فيكون ليلهم كله عامراً بالصلاة، وإنما يتخللها فترات راحة، وذلك اقتداء بما كان عليه السلف والصحابة ومن بعدهم‏.‏

وكان الصحابة يصلون في ليالي رمضان ثلاثاً وعشرين ركعة، وربما صلى بعضهم، أو بعض التابعين كما عند الإمام مالك في رواية ستاً وثلاثين، وعند الإمام الشافعي يصلي في ليالي رمضان إحدى وأربعين ركعة في رواية عنه فيصلون أربع ركعات، وتستغرق نصف ساعة، يستريحون بعدها نحوخمس أو عشر دقائق، ثم يصلون أربعاً وهكذا، ولذلك سموا هذا القيام بالتراويح حيث إنهم يرتاحون بعد كل أربع ركعات‏.‏ فهذه الأفعال هي حقاً إحياء لهذه الليالي في العبادة‏.‏

ويدخل في إحياء تلك الليالي أيضاً إحياؤها بالقراءة؛ فإن هناك من يسهر ليالي العشر يصلون ما قدر لهم، ثم يجتمعون حلقات، ويقرؤون ما تيسر من القرآن في بيت من بيوت الله في المساجد، أو في بيت أحدهم رجاء أن تُحقَّق الفضائل التي رتبت على ذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده‏.‏

فإذا اجتمع جماعة، عشرة أو عشرون، أو نحوذلك يقرؤون القرآن؛ يقرأ أحدهم، وبقيتهم يستمعون له، ناظرين في مصاحفهم، ثم يقرأ الثاني، حزباً أو نصف حزب، أو ربعه، ثم يقرأ الثالث‏.‏‏.‏ وهكذا، فيصدق عليهم أنهم يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، فيُحيون ليلهم بالطاعات والقربات‏.‏

كذلك إذا أحيوا الليل بتعلم أو تعليم كان ذلك أيضاً أحياءً لهذه الليالي بطاعة‏.‏ فإذا أحيينا ليلنا أو جزءاً من ليلنا في تعلُّم علوم دينية، كان ذلك إحياء لهذه الليالي بطاعة تنفعنا إن شاء الله‏.‏

فهؤلاء هم الذين ربحوا ليلهم، واستفادوا من وقتهم‏.‏

 القسم الثاني‏:‏ يحيونها في التكسب وفي التجارات

ويندرج في هذا القسم أولئك الذين يحيون ليلهم في التكسب، في تجاراتهم، وفي صناعاتهم وفي دكاكينهم؛ وهؤلاء قد ربحوا نوعاً من الربح، وهو ربح عابر؛ ربح دنيوي، لكنه قد يكون عند بعضهم أنفس وأغلى ثمناً مما حصل عليه أهل المساجد، وأهل القراءات، وأهل العلم‏!‏ ولكنهم في الحقيقة قد خسروا أكثر مما ربحوا، فترى أحدهم يبيت ليله كله في مصنعه، أو في متجره أو حرفته، أو نحو ذلك‏.‏ فهذا قد أسهر نفسه، وأحيى ليله، ولكن في طلب الدنيا الدنيئة‏!‏

فإذا كان ممن رغب عن الأعمال الأخروية، وزهد فيها، وأقبل على الدنيا بكليته، وانصرف إليها ولم يعمل لآخرته، خيف عليه أن يكون ممن قال الله تعالى في حقهم‏:‏ ‏{‏من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفِّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏سورة هود‏:‏15-16‏]‏‏.‏

وهذه الآية فيمن جعل دنياه أكبر همه، ونسي أو تناسى الآخرة، ولم يعمل لها، وكان مقصده وديدنه السعي وراء هذا الحطام؛ بل جعلها هي مقصده، لا يعمل ولا يسعى ولا يكدح إلا لها، حتى كأنها معبوده، فيصدق عليه أنه عابد لدنياه، وأنه عابد لدرهمه وديناره، ويتحقق عليه التعس، ويدعى عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ تعس عبدالدينار والدرهم والقطيفة‏.‏

ولكن بعضهم قد يحصل على جزء من الصلاة والقراءة ولا يكون غافلاً عن ربه ولا متغافلاً عن الذكر، ولا منشغلاً عن القراءة، فيستصحب معه -مثلاً- كتاب الله يقرأ فيه في أوقات فراغه، ويذكر ربه في أوقات فراغه، ويصلي ما قدر له، ويأتي بورد صغير معه‏.‏ وهذا قد ربح نوعاً من الربح، وإن لم يكن الربح الأكمل، فهذا على طرف، لكن فاته الخير الكثير‏.‏

 القسم الثالث‏:‏ يحيونها في اللهو واللغو

ويشمل أغلبية الناس؛ فإننا نراهم يحيون ليلهم، ولكن في لهو ، وسهو ‏!‏‏!‏ فتراهم يجتمعون في بيوتهم ومجالسهم يتبادلون الفكاهات والضحك، والقيل والقال، وربما تجاوز الأمر بهم إلى الغيبة، وإلى النميمة، وإلى الكلام في أعراض الناس، وما أشبه ذلك، ولا يذكرون الله في مجالسهم إلا قليلاً، ولا يستصحبون شيئاً من القرآن، ولا من كتب الدين والعلم‏!‏

وينقطع ليل أحدهم، أو ليل جماعتهم ليس لهدف سوى نوم النهار، هكذا قصدوا‏!‏ فيفوت عليهم الأمران‏:‏

الأول‏:‏ أنهم لا يشاركون المصلين في الصلوات، ولا يشاركون القراء في قراءتهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم لا يشاركون أهل الأرباح الدنيوية في أرباحهم، فيفوت عليهم هذا وهذا‏!‏

ولا يحزنون على خسارتهم، وأي خسارة تلك التي لا يشعرون بها‏؟‏‏!‏ ألا وهي مضي هذه الأيام والليالي الشريفة دون أن يستغلوها، ودون أن يستفيدوا منها‏.‏

فما أعظم خسارتهم‏!‏ وما أعظم حسرتهم حينما يرون أهل الأرباح قد تقاسموا الأرباح‏!‏ وحينما يرون أهل الحسنات قد ضوعفت لهم حسناتهم‏.‏ فهؤلاء لا خير دين، ولا خير دنيا، بل ربما يكتسبون مآثم بكلام لا فائدة فيه؛ فإن كلام ابن آدم مكتوب عليه، يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏18‏]‏‏.‏

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا ذكر الله ومن والاه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر‏.‏

ويصدق على ذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏114‏]‏‏.‏

وهؤلاء قد يكتب عليهم ما يُسألون عنه، ويحاسبون عليه‏:‏ لماذا قلتم كذا‏؟‏ ولماذا تكلمتم بكذا‏؟‏ ولماذا لم تستخدموا ألسنتكم التي سخرها الله لكم في ذكر الله‏؟‏ ولماذا أبعدتم آذانكم عن استماع ما فيه طاعة الله تعالى، وفيما يرضيه‏؟‏ فلا يجدون لهذا السؤال جواباً‏!‏

 القسم الرابع‏:‏ يحيونها في المعاصي كبيرها وصغيرها

وهؤلاء كثير أيضاً -والعياذ بالله- وهم الذين يحيون هذه الليالي الشريفة في ضد الطاعة‏!‏ فتراهم يسهرون على آلات اللهو ، والمجون‏:‏ ينصتون إلى الأغاني الفاتنة، وإلى الأشرطة الماجنة، وإلى رؤية الصور والأفلام الخليعة‏!‏

وربما زادوا على ذلك هذه النظرات التي ينظرونها إلى ما يثير الشهوات المحرمة؛ فإن سماع هذه الأغاني الفاتنة يزرع في القلوب محبة الزنا والفساد؛ فيدفعهم ذلك إلى طلب المحرمات‏.‏ وكذلك فإن مشاهدتهم لتلك الصور الخليعة تزرع في قلوبهم محبة الشرور فتدفعهم اندفاعاً كلياً إلى أن يأتوا ما لا يحل لهم من زنا، أو شرب خمر، أو ما أشبه ذلك‏.‏ وكثير منهم لا تحلومجالسهم ولا تلذّ إلا إذا شنَّفوا أسماعهم بالأغاني الخليعة‏!‏ ومتّعوا أعينهم بالصور الهابطة‏!‏ وعطَّروا أفواههم بالكلام القبيح‏!‏ وملأوا شهواتهم وبطونهم بالأشربة المحرمة من خمر ونحوها‏!‏ فيجمعون بذلك بين ترك الطاعة، وارتكاب المعصية، أو ما يسبب محبة المعصية‏.‏

فمثل هؤلاء مع كونهم محرومين، فإنهم آثمون إثماً كبيراً، وهؤلاء موجودون بكثرة، ويشكومنهم كثير من الهيئات ممن يأمرون بالمعروف، أو ينهون عن منكر بكثرة، وغالباً ما يعثرون عليهم حتى في نهار رمضان ويقبض عليهم وهم في سكر‏!‏‏!‏ فلا صيام، ولا ابتعاد عن المحرمات‏!‏ وسبب ذلك أنهم طوال ليلهم وهم يتفكرون بهذه المحرمات كما زعموا‏!‏ فيتمادى بهم ذلك إلى محبة هذه المعاصي، والتلذذ بها، فيستعملونها في النهار ويتركون الصيام، الذي هو ركن من أركان الإسلام، ويجمعون بين المعصية وترك الطاعة -والعياذ بالله-‏.‏

وكثيراً ما يختطفون النساء في الأسواق‏!‏ ويتابعونهن، ويلمزونهن‏!‏ وذلك كله من أسباب ضعف الإيمان وقلته في القلوب، وحلول المعاصي ومقدمات الكفر بدلاً منه‏.‏

فهذه أقسام الذين يحيون هذه الليالي، فليختر المسلم لنفسه ما يناسبه من هذه الأقسام‏!‏‏!‏

 استحباب زيادة الاجتهاد في العشر الأواخر

ورد في حديث عائشة‏:‏ ‏(‏أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر، أحيا ليله، وأيقظ أهله، وجَدَّ‏)‏‏.‏ والجدّ هو ‏:‏ بذل الجهد في طلب الطاعات، أو في فعلها، أي‏:‏ بذل ما يمكنه من الوسع‏.‏

وذلك يستدعي أن يأتي الطاعة بنشاط، ورغبة، وصدق ومحبة‏.‏ ويستدعي أن يبعد عن نفسه الكسل، والخمول، والتثاقل، وأسباب ذلك، ففي أي شيء يكون هذا الجدّ‏؟‏

* الجد في الصلاة؛ فيصلي في الليل والنهار ما استطاع‏.‏

* والجد في القراءة؛ أن يقرأ ما تيسر من القرآن بتدبر وخشوع وقلب حاضر‏.‏

* والجد في الذكر؛ أن يذكر الله ولا ينساه، ولا زال لسانه رطباً بذكر الله‏.‏

* والجد في الدعاء؛ أن يدعوربه تضرعاً وخفية وأن يكثر من الدعاء‏.‏

* والجد في الأعمال الخيرية المتعددة من النصائح والعبادات، وما أشبه ذلك‏.‏

* والجد في العلم والتعلم وما يتصل بذلك، أي الاجتهاد في الأعمال كلها‏.‏

إيقاظ الأهل في العشر الأواخر‏:‏

ويدخل في ذلك أمر الأهل -وهم الأولاد والنساء- بالصلاة، فيستحب للمسلم أن يوقظ أهله بهدف الصلاة، وأن يذكرهم بفضلها‏.‏

وكان السلف رحمهم الله يوقظون أهليهم حتى في غير رمضان‏.‏ وكان عمر رضي الله عنه إذا كان آخر الليل أيقظ أهله كلهم، وأيقظ كل صغير وكبير يطيق الصلاة، وكان يقرأ قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها‏}‏ ‏[‏طه‏:‏132‏]‏‏.‏

يستشهد بهذه الآية على الحرص على صلاة النافلة، وذلك دليل على محبة الصحابة والسلف رضي الله عنهم للإكثار من أعمال الخير في الليل والنهار‏.‏

لذلك يتأكد على المسلم أن يوقظ أهله وإخوته، وأولاده ونساءه، ومن يتصل به، ومن له ولاية عليه، يوقظهم لأجل أن يقوموا في هذه الليالي الشريفة‏.‏ فهي ليال محصورة، إنما هي عشر ليال، أو تسع ليال إذا لم تكتمل ليالي الشهر إلى ثلاثين ليلة بأن كان الشهر ناقصاً يوماً، فلا تفوت على الإنسان الباحث عن الخير أن يغتنمها، ويستغل أوقاتها‏.‏

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا قام الرجل للصلاة وأيقظ أهله فصليا كُتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات‏)‏‏.‏

وقد وردت أحاديث بفضائل كثيرة في إيقاظ الأهل في مثل هذه الليالي وغيرها‏.‏

 إظهار النشاط والقوة في العشر الأواخر

ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في ليالي العشر يغتسل كل ليلة بين العشائين أو بعد العشاء، والقصد من هذا الاغتسال أن يأتي الصلاة بنشاط بدن، ومن نشاط البدن يأتي نشاط القلب‏.‏

ومن احترام هذه الليالي وتعظيمها أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا يتجملون لهذه الليالي فيلبس أحدهم أحسن ثيابه، ليكون ذلك أيضاً أنشط لبدنه، وأنشط لقلبه، حتى إن كثيراً منهم يتجملون في هذه الليالي بثياب لا يلبسونها لغيرها‏.‏

ومما يفعلونه للنشاط والقوة استعمالهم للطيب في البدن، وفي الثوب، وفي المساجد، فكانوا يستعملون النضوح، والنضوح هي‏:‏ الأطياب السائلة حتى يكون الإنسان طيب الريح، ويكون بعيداً عن الروائح الكريهة لأن الملائكة تحب الريح الطيب، وتتأذى مما يتأذى منه ابن آدم، وكذلك يطيبون مساجدهم بالنضوح، وبالدخنة التي هي المجامر‏.‏

فمثل هذه مما تكسب النشاط في البدن، والنشاط في القلب، ومتى كان القلب والبدن نشيطين لم يملّ الإنسان ولم يكل، ومتى كان البدن كسولاً ضعف قلبه، وملّ من العبادة، وكسل عنها‏.‏

وكثيراً ما يذم الله تعالى أهل الكسل، كما ذكر الله تعالى ذلك في وصفه المنافقين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏142‏]‏‏.‏

فالمسلم يأتي بالأعمال التي تحبب إليه العبادة وتجعله منشرح القلب، مقبلاً عليها بكليته، غير غافل ولا ساه، بعيداً عن كل ما يلهي القلب ويشغله عن طاعة مولاه عز وجل‏.‏

 تحري ليلة القدر في العشر الأواخر

يرجع سبب فضل ليالي العشر إلى أن فيها ليلة القدر؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان الطويل في فضل شهر رمضان‏:‏ ‏(‏شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم‏)‏‏.‏

وهذه الليلة قد أخفي العلم بعينها، فلم يطلع الله عليها أحداً من خلقه، والسبب في ذلك طلب الاجتهاد في بقية الليالي، فإنهم لوعلموا عينها لناموا في بقية الليالي، وقاموا هذه الليلة وحدها، ولم يحصل لهم زيادة الأعمال، فإذا أبهمت في هذه الليالي فإنهم يجتهدون، فيقومون في كل ليلة جزءاً رجاء أن يوافقوها، فكلما جاءت ليلة قال أحدهم‏:‏ أرجوأن تكون هذه هي الليلة التي هي خير من ألف شهر، فيقومها‏.‏ فإذا جاءت الليلة التي بعدها قال‏:‏ قد تكون هذه، إلى أن تنتهي أيام العشر، فيحصل على أجر كثير، وتتضاعف له الحسنات، ويكون ممن عبد ربه عبادة متتابعة، لا عبادة منقطعة قليلة‏.‏

أما تعيين تلك الليلة فقد اختلف فيها اختلافاً كثيراً، حتى وصلت الأقوال فيها إلى أكثر من أربعين قولاً كما في فتح الباري‏.‏ وكلها ليست بيقين‏.‏

فمنهم من قال‏:‏ إنها ليلة إحدى وعشرين، واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إني رأيت في صبيحتها أني أسجد في ماء وطين‏)‏‏.‏ قال أبوسعيد راوي الحديث‏:‏ فأمطرت السماء فوكف سقف المسجد، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين‏.‏

ورجّح الإمام الشافعي ليلة إحدى وعشرين لهذا الحديث‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ هي ليلة ثلاث وعشرين، واستدل ‏(‏بأنه صلى الله عليه وسلم حث على قيام السبع الأواخر مرة، ثم قال‏:‏ كم مضى من الشهر‏؟‏ قالوا‏:‏ مضى ثنتان وعشرون، وبقي ثمان، قال‏:‏ بل مضى ثنتان وعشرون وبقي سبع، فإن الشهر لا يتم، اطلبوها الليلة‏.‏ ‏(‏يعني ليلة ثلاث وعشرين‏)‏ ذكره ابن رجب في الوظائف‏.‏

ومنهم‏:‏ من رجح ليلة أربع وعشرين، وذلك لأنها أولى السبع الأواخر، واستدل بأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى كثير من أصحابه ليلة القدر في السبع الأواخر قال‏:‏ ‏(‏أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فتحروها أو قال‏:‏ فمن كان متحريها فليتحرَّها في السبع الأواخر‏)‏‏.‏ والسبع الأواخر أولها ليلة أربع وعشرين إذا كان الشهر تاماً‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ إنها تطلب في ليالي الوتر من العشر كلها؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏التمسوها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان‏)‏‏.‏ والوتر هي الليالي الفردية‏.‏

وبالرجوع إلى ما مضى فليالي الوتر هي ليلة إحدة وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين‏.‏ فهذه أوتارها بالنسبة إلى ما مضى‏.‏

وإذا قلنا‏:‏ إنها بالنسبة إلى ما بقي فهي الليلة الأخيرة التي ما بعدها إلا ليلة واحدة‏.‏ وليلة ثمان وعشرين، وليلة ست وعشرين، وليلة أربع وعشرين، وليلة اثنتين وعشرين‏.‏

وعلى هذا تكون ليالي العشر كلها محلاً للطلب والالتماس‏.‏

 فضل ليلة القدر

ذكر الله سبحانه وتعالى أن ليلة القدر خير من ألف شهر، ومعنى ذلك أن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في ألف شهر، والعمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر‏.‏

روي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل حمل السلاح ألف شهر، فتعجب من ذلك الصحابة رضي الله عنهم وقالوا‏:‏ كيف تبلغ أعمارهم إلى ذلك‏؟‏ فأنزل الله هذه الليلة -أي ليلة القدر- حيث العبادة فيها خير من الألف شهر التي حمل فيها ذلك الإسرائيلي السلاح في سبيل الله‏.‏ ذكره ابن رجب وغيره‏.‏

وعلى كل حال فإن هذا فضل عظيم‏.‏ ومن فضل ليلة القدر أيضاً أنها سبب لغفران الذنوب، وأن من حُرم خيرها فقد حرم‏.‏

 قيام ليلة القدر

قيام ليلة القدر يحصل بصلاة ما تيسر منها، فإن من قام مع الإمام أول الليل أو آخره حتى ينصرف كتب من القائمين‏.‏ ‏(‏وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى ليلة مع أصحابه أو بأصحابه، فلما انصرفوا نصف الليل قالوا‏:‏ لونفلتنا بقية ليلتنا، فقال‏:‏ إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة‏)‏‏.‏ رواه أحمد وغيره، وكان أحمد يعمل به‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏(‏لونفلتنا ليلتنا‏)‏‏:‏ يعني لوأكملت لنا قيام ليلتنا وزدنا في الصلاة حتى نصليها كاملة، ولكنه صلى الله عليه وسلم بشرهم بهذه البشارة، وهي أنه من قام وصلى مع الإمام حتى يكمل الإمام صلاته، كتب له قيام ليلة‏.‏ فإذا صلَّى المرء مع الإمام أول الليل وآخره حتى ينصرف كتب له قيام تلك الليلة، فحظي منها بما يسر الله، وكتب من القائمين، هذا هو القيام‏.‏

وقيام ليلة القدر يكون إيماناً واحتساباً كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إيماناً واحتساباً‏.‏

والإيمان هو ‏:‏ التصديق بفضلها، والتصديق بمشروعية العمل فيها‏.‏ والعمل المشروع فيها هو الصلاة، والقراءة، والدعاء، والابتهال، والخشوع، ونحوذلك‏.‏‏.‏ فإن عليك أن تؤمن بأن الله أمر به، وشرعه، ورغب فيه، فمشروعيته متأكدة‏.‏

وإيمان المرء بذلك تصديقه بأن الله أمر به، وأنه يثيب عليه‏.‏

وأما الاحتساب‏:‏ فمعناه خلوص النية، وصدق الطوية، بحيث لا يكون في قلبه شك ولا تردد، وبحيث لا يريد من صلاته، ولا من قيامه شيئاً من حطام الدنيا، ولا شيئاً من المدح، ولا الثناء عليه، ولا يريد مراءاة الناس ليروه، ولا يمدحوه ويثنوا عليه، إنما يريد أجره من الله تعالى، فهذا هو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ إيماناً واحتساباً‏.‏

وأما غفران الذنوب فإنه مقيد في بعض الروايات بغفران الخطايا التي دون الكبائر، أما الكبائر فلابد لها من التوبة النصوح، فالكبائر يجب أن يتوب الإنسان منها، ويقلع عنها ويندم‏.‏ أما الصغائر فإن الله يمحوها عن العبد بمثل هذه الأعمال، والمحافظة عليها، ومنها‏:‏ صيام رمضان، وقيامه، وقيام هذه الليلة‏.‏

ويستحب كثرة الدعاء في هذه الليلة المباركة، لأنه مظنة الإجابة، ويكثر من طلب العفووالعافية كما ثبت ذلك في بعض الأحاديث، فعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها‏؟‏، قال‏:‏ قولي‏:‏ اللهم إنك عفوكريم تُحب العفوفاعف عني‏.‏

والعفومعناه‏:‏ التجاوز عن الخطايا، ومعناه‏:‏ طلب ستر الذنوب، ومحوها وإزالة أثرها، وذلك دليل على أن الإنسان مهما عمل، ومهما أكثر من الحسنات فإنه محل للتقصير، فيطلب العفوفيقول‏:‏ يا رب اعف عني‏.‏ يا رب أسألك العفو‏.‏

وقد كثرت الأدعية في سؤال العفو، فمن ذلك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ اللهم إني أسألك العفووالعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة‏.‏

وكان بعض السلف يدعوفيقول‏:‏ اللهم ارض عنا، فإن لم ترض عنا، فاعف عنا‏.‏

ويقول بعضهم شعراً‏:‏

يا رب عبدك قد أتاك، وقد أساء، وقد هفا

حمل الذنوب على الذنوب الموبقات وأسرفا

يكفيه منك حياؤه من سوء ما قد أســلفا

رب اعف عنه، وعافه فلأنت أولى من عفا

فهذا القول ونحوه دليل على أن الإنسان مهما عمل فغاية أمنيته العفووالتجاوز والصفح عن الذنوب والخطايا، وسترها وإزالة أثرها‏.‏